المصطفى بكى طلب الرحمة من الله على وفاة اصحابة
مع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان زاهدا في الدنيا وعانى كثيرا من شظف العيش، وتذكر كتب السيرة أنه كان واصحابه يظلون لأكثر من ثلاثة أيام من دون طعام، غير أنه كان صلى الله عليه وسلم عندما يتناول طعاما يحتوي على اللحم والانواع الاخرى من نعم الدنيا، يبكي، طلبا لرحمة الله، لأن هذا النعيم يسأل عنه يوم القيامة.
ويصور لنا ابن عباس رضي الله عنه أحد هذه المشاهد، فيقول: خرج أبو بكر بالهاجرة إلى المسجد، فسمع بذلك عمر فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: ما أخرجني الا ما أجد من حاق الجوع ( شدة الجوع). قال: وأنا والله ما أخرجني غيره. فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال:” ما أخرجكما هذه الساعة؟”.
قالا: والله ما أخرجنا الا ما نجد في بطوننا من حاق الجوع. فقال (صلى الله عليه وسلم): “وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني غيره، قوما”. فانطلقوا حتى أتوا باب أبي أيوب الانصاري، وكان أبو أيوب يدخر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) طعاما أو لبنا، فأبطأ عنه يومئذ فلم يأت لحينه فاطعمه لأهله وانطلق الى نخله يعمل فيها، فلما انتهوا إلى الباب خرجت امرأته فقالت: مرحبا بنبي الله وبمن معه.
فقال لها نبي الله (صلى الله عليه وسلم):” فأين أبو أيوب؟”. فسمع وهو يعمل في نخل له، فجاء يشتد، فقال: مرحبا بنبي الله وبمن معه.. يا نبي الله ليس بالحين الذي كنت تجيء فيه! فقال له النبي صدقت.
إن هذا لهو النعيم
انطلق ابو ايوب فقطع عذقاً من النخل فيه من كل التمر والرطب والبسر (البلح قبل ان يرطب). فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): “ما أردت الا هذا؟ ألا جنيت لنا من تمره” فقال: يانبي الله أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره، ولأذبحن لك مع هذا.
فقال (صلى الله عليه وسلم): “ان ذبحت فلا تذبحن ذات در” فأخذ عناقا أو جديا فذبحه، وقال لامرأته: اخبزي واعجني لنا، وأنت أعلم بالخبز، فأخذ الجدي فطبخه وشوى نصفه، فلما أدرك الطعام وضع بين يدي النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فأخذ من الجدي فجعله في رغيف فقال: يا أبا أيوب أبلغ بهذا فاطمة فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام.
فذهب به أبو أيوب الى فاطمة فلما أكلوا وشبعوا قال النبي: “خبز ولحم وتمر وبسر ورطب! ودمعت عيناه (صلى الله عليه وسلم) والذي نفسي بيده ان هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه قال الله سبحانه وتعالى “ثم لتسألن يومئذ عن النعيم” فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة”.
فكبر ذلك على اصحابه رضي الله عنهم، فقال (صلى الله عليه وسلم): “اذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا باسم الله وان شبعتم فقولوا: الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم علينا وأفضل، فإن هذا كفاف بها”.
فلما نهض قال لأبي أيوب “ائتنا غدا”. وكان لا يأتي إليه أحد معروفا الا أحب أن يجازيه.. قال: وإن أبا أيوب لم يسمع ذلك فقال عمر: ان النبي (صلى الله عليه وسلم) أمرك أن تأتيه غدا.. فأتاه من الغد فأعطاه وليدته فقال: “يا ابا أيوب استوصي بها خيرا، فإنا لم نر إلا خيرا ما دامت عندنا”. فلما جاء بها أبو أيوب من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لا أجد لوصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خيرا من أن أعتقها، فأعتقها.
جبريل
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالسا ذات يوم في بيتي، قال:”لا يدخل عليّ أحد”، فانتظرت فدخل الحسين، فسمعت نشيج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبكي فاطلعت فإذا الحسين في حجره، والنبي يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله ما علمت حين دخل.
فقال (صلى الله عليه وسلم): “ان جبريل عليه السلام كان معنا في البيت: قال: أتحبه؟ فقلت: أما في الدنيا فنعم، قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء”.
فتناول جبريل من تربتها فأراها النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما أحيط بالحسين حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟. قالوا: كربلاء، فقال:صدق الله ورسوله، كرب وبلاء.. وفي رواية: صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أرض كرب وبلاء.
وبكى (صلى الله عليه وسلم) عندما بلغه قتل حمزة. وعن هذا الموقف يروي جابر بن عبدالله رضي الله عنهما فيقول: “لما بلغ النبي قتل حمزة بكى، فلما نظر إليه شهق” وفي رواية: مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل، فسمع البكاء والنواح على قتلاهم، فذرفت عيناه (صلى الله عليه وسلم)، فبكى ثم قال:”لكن حمزة لا بواكي له”.
وعن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه قبله، وبكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه”.
وفي رواية أخرى عن سالم بن ابي النضر قال: “دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على عثمان بن مظعون وهو يموت، فأمر رسول الله بثوب فسجى عليه، وكان عثمان نازلا على امرأة من الانصار يقال لها: أم معاذ قالت: فمكث رسول الله مكباً عليه طويلا وأصحابه معه، ثم تنحى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبكى، فلما بكى بكى أهل الدار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): رحمك الله ابا السائب، وكان السائب قد شهد بدرا”.
رحمة
وبكى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما علم أن سعد بن عبادة في مرحلة الاحتضار رحمة به، ويخبرنا بهذا الموقف أحد صحابة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: “اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي (صلى الله عليه وسلم) يعوده مع عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن ابي وقاص، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي، فلما رأى القوم بكاء النبي (صلى الله عليه وسلم) بكوا، فقال: ألا تسمعون ان الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا واشار الى لسانه او يرحم”.
ومن المواقف التي بكى فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) استشهاد ثلاثة من خيرة أصحابه في قتال الروم وهم: جعفر بن ابي طالب، وزيد بن حارثة، وعبدالله بن رواحة، وفي ذلك يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “نعى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جعفرا، وزيد بن حارثة، وعبدالله بن رواحة نعاهم قبل ان يجيء خبرهم، نعاهم وعيناه تذرفان”.
ويروى ان النبي بكى قبل وفاته بستة أيام، وعن هذا الموقف يحدثنا عبدالله بن مسعود فيقول: نعى الينا حبيبنا ونبينا بأبي هو ونفسي له الفداء قبل موته بست، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا (صلى الله عليه وسلم) فدمعت عيناه، ثم قال: “مرحبا بكم، حياكم الله، حفظكم الله،آواكم الله،نصركم الله، رفعكم الله، هداكم الله، رزقكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، اني نذير مبين الا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإن الله قال لي ولكم “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين”. وقال: “أليس في جهنم مثوى للكافرين”.. ثم قال: قد دنا الأجل والمنقلب الى الله، والى سدرة المنتهى، والى جنة المأوى وللكأس الأوفى، والرفيق الأعلى”.
وهكذا كانت افراح واحزان النبي (صلى الله عليه وسلم) كلها من اجل العبرة والعظة والقدوة الحسنة، ومن عمل بسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإن الله يضمن له طريقه الى الجنة