لم تكن تصريحات بابا الفاتيكان (بنديكت السادس عشر) الساخرة بالإسلام و المستخفّة بشخص النبي - عليه الصلاة والسلام -..هي الأولى من نوعها، و لن تكون الأخيرة كذلك..((بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ)) (الصافات: 12).
((وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)) (البقرة: 120).
نعم لقد سبقتها هجومات شرسة، سخريات متعددة، وما نسي العالم بعد فضاعة الرسومات الدانمركية الساخرة بالرسول ووصفه بالإرهاب. تلك التي عصفت موجة غضبها في العالم الإسلامي بل وفي العالم الغربي والشرقي.. حيث ينتشر المسلمون.
ولئن ظن الغرب و من سار في ركبهم.. أنّها موجة غضب تعالت ثم خبت فهم يخطئون في تقديرهم، فقد أيقظت الغضبة ضمائر وحركت مشاعر، وأبقت في الوجود صدى، وفي الحياة حراكا ما تزال المطابع تدفع من الكتب والمطويات ما توضح حقيقة الإسلام، وعظم حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبمختلف اللغات، ولو علمت إحصائية دقيقة لمن انتفع بهذه الجهود وعرف بالإسلام من لم يكن يعرفه، واستقام من أهل الإسلام من كان يجهله.. لوجد من ذلك شيء عظيم: ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (الصف: .
وإذا كانت تصريحات البابا الأخيرة تمثل وجهة نظر السلطة الدينية العليا في النصرانية وفي معقل (الفاتيكان) فتصريحات قادة النصارى السياسية ليست منها ببعيد.. ومن تصريح بوش بقيادة (حملة صليبية) ضد المسلمين.. تلك التي اعتبرت غلطة.. وفُسِرت بأنها فهمت على غير قصد قائلها.. ؟
إلى أن اتهم بوش الإسلام والمسلمين بالفاشية مؤخّرا وبين تصريحات بوش السابقة و اللاحقة أعمال وممارسات و سياسات تحاصر الإسلام وتحارب المسلمين في عقر دارهم.
ومن هنا تلتقي كلمات القوم وتصريحاتهم مع أعمالهم وخططهم و سياساتهم، ولا يغيب هذا وذاك إلّا عن مغفل أو جاهل أو ممالئ؟
وحين نعود إلى تصريحات البابا الأخيرة نسجل الوقفات التالية:
1- يحلو للبعض أن يصف النصارى و النصرانية المعاصرة بالتسامح.. و هذا وهم بددته الرياح العاتية التي قذفت بكلمات القوم و تصريحاتهم على مستوى أظهرته وسائل الإعلام العالمية و شاركت في نقده بعض المؤسسات الغربية إلى جانب المؤسسات الإسلامية..
نعم إن النصرانية الأصيلة التي جاء بها المسيح - عليه السلام - واتبعه عليها الحواريون أنصار الله نموذجا للتسامح و الطهر والعفاف لكنها ليست كذلك في ظلّ النصرانية المحرّفة وعند أدعياء النصرانية المعاصرين والصليبيين.
2- وفي الوقت الذي يتورع فيه بعض أبناء الإسلام من وصف من يستحق الكفر بالكافر يهوديا كان أو نصرانيا، أو وثنيا أو نحوهم فيستبدلون الكافر (بالآخر) ويظنون أنهم يتأدبون أكثر من أدب القرآن حيث سمى الأشياء بمسمياتها: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)) (سورة البينة: 6).
((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) (الكافرون: 1).
إلى غير ذلك من تصريحات القرآن الصريحة.
في هذا الوقت يتجرأ النصارى على السخرية بالإسلام بل والتطاول على نبي الإسلام.. فأين هذا من هذا؟ و ليس لنا أدب فوق أدب القرآن، وإذا تزاحمت المصطلحات بقيت مصطلحات القرآن أدق في التعبير، وأصدق في التقويم.. ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)) (الإسراء: 9)).
3- ومصطلح الولاء والبراء الذي كاد أن يخبو عند فئة من المسلمين، بل أصبح عند بعضهم مكانا للتندر و السباب عند من انحرف عن منهج الإسلام، هو اليوم يتجدد بنصاعته و على وقع براءة المشركين من الإسلام وسخريتهم بالمسلمين و نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
إن الغرب بحماقته يثير في كوامن النفوس المؤمنة معنى الولاء والبراء، فالمسلمون يتولّون الله ورسوله والمؤمنين: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) (المائدة: 55).
ويتبرّأون من الشرك والمشركين ومن كل عدو للإسلام والمسلمين: ((وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) (التوبة: 3). ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)) (الممتحنة: 1).
والغرب حين يسخر بالنبي فهو يعلن عداوته وبراءته منه، وهو بريء منهم، والمسلمون براء ممن يؤذي نبيّهم.
إنه الولاء والبراء المشروع تملأ نصوصه الوحيين وتزخر مدونات المسلمين بشرح مفهومه ودلالاته.. ويظل القرآن معجزا فمصطحلاته قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة تتجدد اليوم وكأنها تخاطب القوم وتحكي حالهم وتصف عدوانهم على الإسلام والمسلمين..
ولئن ضعف الولاء البراء عند نفر من المسلمين رقّ دينهم أو اختلط الحقّ بالباطل في عقولهم، فإن الغرب بمؤسساته الدينية والسياسة يعيدها جذعة وحسب مفاهيمهم للولاء ونظرتهم للإسلام و المسلمين..
4- ويتجاوز الغرب في عدوانه الأخير حين يسخر البابا بالإسلام ونبيّه - عليه الصلاة والسلام -.. إحياء المعاني الكبرى في العقيدة كالولاء والبراء.. إلى بعث روح الصليبية من جديدة.. تلك التي ظن المخدوعون من أبناء أمتنا إنها حروب تاريخية عفى عليه الزمن، وجاء عصر العوملة وزمن الحضارة، وبيئة حوار الحضارات ليذيب جليدها ويمحو من الأذهان ذكراها.. وهذا وهم أو تغافل عن العداوة الأزلية بين الإسلام والكفر المؤكد بوحي السماء ((وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)) (البقرة: 217).
((وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) (البقرة: 120)
وشاء الله أن ينطق البابا بنديكت ومن قبله البابا بوش؟ لتعود هذه الحقيقة ماثلة للعيان، فهي تعبير الرئاسة والسيادة وليست بتصريح مصدر غير مسول.
والسؤال المهم ما مدى استعداد المسلمين لهذه الحروب الصليبة التي يُدقُّ أسفينها من قادة الغرب اليوم؟
5- على أن الأحداث مهما تعاظمت والخطوب مهما تراكمت فهي باعثة على الفأل، مؤشرة إلى قوة الإسلام وهيبة المسلمين.. فالعظيم يستهدف، والعظماء هم الذين يبتلون، ولو لا أن الإسلام رمز قوة ومصدر خوف للغرب لما شرقوا به وحاربوه.
ولولا أن المسلمين يمثلون مرتكز التحدّي، والمؤهلون للمقاومة والتصدّي لما تحرش بهم الآخرون. إن ضعف المسلمين وفرقتهم لا ينبغي أن توقف هذه المشاعر، فطالما مرّ بالمسلمين ظروف عصيبة وفرقة مذلة ولكن سرعان ما توحد الشمل وانتفض المارد، وتجمع المسلمون فكانت المعارك الفاصلة وانتصر الإسلام وتفوق المسلمون، والأيّام دول، والعاقبة للمتقين.
6- على أن الواجب المهمّ على أبناء الإسلام في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ أن يستمسكوا بالإسلام، وألا تزيدهم هذه الحروب المتنوّعة إلا ثباتا على الحقّ، إنّ أعظم ردّ على هذه المفتريات هو مزيد القناعة بهذا الدين العظيم وفوق ذلك النشاط في الدعوة إليه.. فذلك الذي يوهن القوم ويردّ سهامهم على نحورهم.
أجل لقد عجزت الكنيسة الغربية-أن تحقق أهدافها من خلال ما يسمّى ب(التبشير) رغم الأموال المبذولة، والخطط المحكمة، و حقق الإسلام بمده وانتشاره ما غزا الغرب في عقر دارهم، فأضحوا وأمسوا على صوت الإسلام يهدد كيانهم ويؤسلم أبناءهم. وعادت الجاليات المسلمة في ديار الغرب ظاهرة تقلق وأرقاما تخيف- ومن هنا عمدوا إلى الحرب للإسلام بكافة أنواع الحرب، والإسلام أمضى وأقوى من أن يهزم بل عاد الغرب كنا طح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنة الوعل
أنها حقيقة أدركها الغرب أكثر من المسلمين، فهل يدرك المسلمون كما أدرك الغرب قوة الإسلام، وخلفية المسلمين: و((لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) (الروم: 4- 5).
7- وبقيت همسة للمقربين تقول: وإذا تعاظمت السخريّة من الغرب بالإسلام وأهله وإن كان الشيء من معدنه لا يستغرب- فالسخرية تتعاظم أكثر حين تصدر وبأيّ شكل من الأشكال- من بعض أبناء الإسلام، و يتعاظم الخطر، وتتسع مساحة البلبلة و الشرور حين يُطاف بالسخرية على الملإ عبر وسائل الإعلام المرئيّة أو المسموعة أو المقروءة؟!
إنها طوام بُلي بها المسلمون ولها سابقة عند من يُعرفون بلحن القول ومن يتخذون أيمانهم جنّة، ويلمزون المطوعين من المؤمنين، وأولئك لم يسلم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أذاهم، وأنّى للمؤمنين أن ينجوا من كيدهم و سخريتهم بل وحطموا سياج الهيئات الإسلامية ولو كانت ضمن الدوائر الرسميّة، ولم ترع فيها حرمة الزمان ولو كانت أيام رمضان؟
وإلى الله المشتكى وهو وحده المستعان..
وهنا نداء يطلق و دعوة صادقة تبعث لهؤلاء وأولئك أن يكفّوا عن السخرية و الاستهزاء تعظيما لحرمة شهر الصيام وتقديرا لمشاعر المسلمين وحفظا لطاقات الأمة أن تبدد، ولصفّها أن يتفرّق، وهل يشك عاقل أن حاجتنا اليوم إلى البناء ماسة، وإلى رصّ الصفوف متحتمة. فعدونا يرمينا عن قوس واحدة وعلى مختلف الأصعدة، فهل من مدكر؟