الترويح عن النفس في الإسلام
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على نبيه الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
يعتبر الترويح عن النفس من الأمور المهمة التي يحتاجها المرء.. في حياته، ولكن كثيراً من الناس يقع في هذا الموضوع إما في إفراط بحيث يغلو فيه ويجعل همه هو الترويح عن نفسه والترفيه عنها، ومن الناس من يفرط فيه ويرى أنه لا فائدة منه ولا داعي له، بل هو مضيعة للوقت مفسدة للعمر..
ونحن هنا نحاول تبيان مفهوم الترويح في ضوء القيم والمبادىء الإسلامية، مع بيان أهميته، ونقدم شيئاً من أدلته وخصائصه، ونبرز ما يوافق الله له من ضوابط وقواعد شرعية عل ذلك أن يدفع إلى استخدام صحيح للترويح، وممارسة له منضبطة بالشرع الحنيف.
تعريف الترويح:
تدور مادة ( روح ) في اللغة حول معاني: السعة، الفسحة، الانبساط، إزالة التعب والمشقة، إدخال السرور على النفس، الانتقال من حال إلى حال آخر أكثر تشويقاً منه ونحو ذلك .
أما تعريفه في الإصلاح:
فهو أوجه النشاط غير الضارة التي يمكن أن يقوم بها الفرد أو الجماعة في أوقات الفراغ بغرض تحقيق التوازن، أو الاسترخاء وإدخال السرور والتنفيس عن النفس الإنسانية وتجديد همتها ونشاطها في ضوء القيم والمبادىء الإسلامية.
أهمية الترويح:
تبرز أهمية الترويح عن النفس في جوانب كثيرة منها:
تحقيق التوازن بين متطلبات الكائن البشري ( روحية - عقلية - بدنية ) ففي الوقت الذي تكون فيه الغلبة لجانب من جوانب الإنسان، يأتي الترويح ليحقق التوازن بين ذلك الجانب الغالب وبقية الجوانب الأخرى المتغلب عليها.
يساهم النشاط الترويحي في إكساب الفرد خبرات ومهارات وأنماط معرفية، كما يساهم في تنمية التذوق والموهبة ويهيء للإبداع والإبتكار.
يساعد الإشتغال بالأنشطة الترويحية في إبعاد أفراد المجتمع عن التفكير أو الوقوع في الجريمة، وبخاصة في عصرنا الذي ظهرت فيه البطالة حتى أصبحت مشكلة، وقلت فيه ساعات العمل والدراسة بشكل ملحوظ وأصبح وقت الفراغ أحد سمات هذا العصر.
الترويح ينقذ الإنسان من الملل والضجر وضيق الصدر، وما إلى ذلك من الإحساسات الأليمة التي يسببها في العادة عند بعض الناس خلوهم من الأعمال الجدية.
ينسي الإنسان ما لديه من آلام نفسية أو حسية، أو يخفف من وطأتها.
من أدلة جواز الترويح:
1 - ما روي في صحيح مسلم من حديث حنظلة وفيه قال: ( نافق حنظلة يا رسول الله ! ) فقال رسول الله : { وما ذاك؟ } قال: ( يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى العين، فإذا خرجنا من عندك عاسفنا - ( اشتغلنا بها، عالجنا معايشنا وحظوظنا ) - الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً )، فقال رسول الله : { والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة } ثلاث مرات.
2 - وفي الصحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن الرسول قال: { صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً }، وفي رواية مسلم: { يا عبدالله بن عمرو: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت، لا صام من صام الأبد }.
3 - وما روي عن أنس بن مالك عند أبي داود أن النبي قال له: { يا ذا الأذنين } يعني يمازحه.
4 - ما في الصحيح عن محمود بن ربيع أنه قال: إني لأعقل مجة مجها رسول الله في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو.
5 - ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي في سفر قالت: ( فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم، سابقته فسبقني ) فقال: { هذه بتلك } [رواه أبو داود].
6 - وما عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( والله لقد رأيت رسول الله ، يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله ، سترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللهو ).
خصائص الترويح عن النفس في الإسلام:
الإسلام نظام متكامل - عقيدة وشريعة - لا بد أن تنبثق عنه جميع تصورات ومبادىء وقيم وسلوكيات المسلم، فموضوع الترويح لا بد أن ننظر إليه من خلال الخصائص التي أعطاها له الإسلام، ومنها أنه:
1 - عبودية لله: كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162،161]، والترويح هو جانب من جوانب المحيا في حياة المسلم، فهو لله في حال إصلاح العبد لنيته وممارسته بشروط حلِّه، واتخاذه وسيلة لا غاية، وغير ذلك من الضوابط التي سنذكرها بإذن الله، وقد روي عن أبي الدرداء أنه قال: ( إني لأستجم قلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق ).
2 - ثابت المعالم متجدد الوسائل: فلا بد فيه من عدم تجاوز جوانب يوجب الإسلام تركها - لحرمتها أو ضررها - فينضبط بضوابط الإسلام ويحتكم بأحكامه، وما سوى ذلك فللإنسان أن يبدع ويجدد فيه ماشاء من كيفيات ووسائل.
3 - يراعي طبيعة الفطرة الإنسانية: فنجد أنواع الترويح المشروع شاملة لجميع حاجات ودوافع الإنسان التي تتطلبها جوانبه المختلفة ( الروح، العقل، الجسد ) مما يدل على أن من خصائصه العموم والشمول ومراعاة الفطرة.
ضوابط الترويح عن النفس في الإسلام:
1 - الأصل في الترويح الإباحة:
لقوله فيما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه: { ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم، فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسياً، ثم قرأ هذه الآية وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64] }. ومن قواعد الشريعة أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم.
2 ـ الترويح وسيلة لا غاية:
فهو وسيلة لتحقيق التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة، في حالة وجود اختلاف بالإفراط في جانب على حساب الجوانب الأخرى، وإذا تجاوز النشاط الترويحي هذا الحد وأصبح هدفاً في ذاته، فإنه يخرج من المستحب أو المباح إلى الكراهية أو الحرمة، فيخرج مثلاً احتراف بعض الأنشطة الترويحية عن دائرة المباح أو المشروع، لأن في ذلك إلهاءً عن الواجبات الأساسية. فالإسلام قد رفض الإفراط في كمية العبادات الشرعية، مثال قوله : { إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول، فليضطجع } [رواه مسلم]. فهذا نهي عن زيادة كمية عبادة، فما بالنا بأمر مباح لم يأمرنا الشارع به، حتى نزده على المأمورات !
3 - الجد هو الأصل والترويح فرع:
سبق أن ذكرنا أن الترويح إنما هو حالة علاجية لحصول اختلال في إعطاء كل جانب من جوانب الكائن البشري ما يستحق من نشاط وقوة، ليعود الإنسان بكافة جوانبه مواصلاً سيره إلى الله بجد ونشاط، ويظهر ذلك جلياً في أقواله وأفعاله، حيث قال كما عند ابن ماجه: { ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب }. وما روي في صحيح مسلم عن سماك قال: ( قلت لجابر بن سمرة أكنت تجالس رسول الله ؟ ) قال: ( نعم كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، فكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم ). فقد كان مقدماً للجد على الترويح كما ظهر.
4 - ألا يكون في النشاط الترويحي مخالفة شرعية:
وهذا هو الضابط الأهم من ضوابط النشاط الترفيهي ولتطبيقه صور مختلفة منها:
ألا يكون في النشاط الترويحي أذية للآخرين من سخرية، أو لمز ونبز، وغيبة، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12،11]، أو أذى بترويع لقوله : { لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً } [رواه أحمد وأبو داود]، ولا بأخذ متاعه واعتداء على ممتلكاته، لقوله عند أبي داود: { لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً }.
ألا يكون في النشاط الترويحي كذب وافتراء؛ فقد قال : { ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ! ويل له ! }، [رواه داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
ألا يكون فيه تبذير للمال واستهلاك باذخ، قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:27،26 ]، وهذا في أمر واجب وهو الإنفاق على ذي القربى والمسكين وابن السبيل فكيف الحال في الترويح؟ ! !
ألا يكون في النشاط الترويحي اختلاط لما يفضي إليه ذلك من النظر المحرم، والخلوة المحرمة، بالإضافة إلى أنه قد يكون ذريعة لمخالفات شرعية أكبر، والله تعالى قد نهى عن مجرد قربان الزنا ولم يقتصر على تحريم الزنا، بل القربان فقد قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
ألا يكون فيه معازف لقوله : { ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف } [رواه البخاري].
ألا يكون من نرد لقوله : { من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله } [رواه أحمد وأبو داود] وقوله: { من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير } [مسلم].
ألا يكون من ميسر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].
ألا يكون فيه تحريش بين البهائم فقد نهى رسول الله عن التحريش بين البهائم [رواه الترمذي].
ألا يتخذ ما له روح هدفاً، قال : { لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً } [رواه مسلم].
تصوير ما له روح، قال : { من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ } [رواه البخاري].
النظر إلى ما حرم الله لقوله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31،30].
5 - ألا يكون فيه ضرر على ممارسه:
لقوله : { لا ضرر ولا ضرار } [رواه أحمد]، وللقاعدة الشرعية: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام.
وبما سبق يتضح لنا الرؤى حول كثير من أساليب الترويح والترفيه المستحدثة، وبناء على الضوابط السابقة نستطيع قياس أي أمر وارد جديد...
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
-- موسوعة لينكولن التربوية