السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً متقبلاً
عن أم سلمة -رضي الله عنها-: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أصبح قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً)(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
معاني ألفاظ الحديث:
معنى (علماً نافعاً): أي أنتفع به وأنفع به.
ومعنى (رزقاً طيباً): رزقاً حلالاً.
ومعنى (عملاً متقبلاً): مقبولاً عند الله، فيثيبني عليه، ويأجرني أجراً حسناً.
الشرح:
في هذا الذكر من أذكار الصباح، والتي واظب عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد سأل -صلى الله عليه وسلم- ربه العلم النافع الذي ينتفع به وينفع به غيره، وهذا أشرف مقام، وأعظم حال أن ينتفع المرء بالعلم نفسه ثم ينفع به غيره, هذا فضلاً عن شرف العلم ذاته؛ فلقد قال الله -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(المجادلة:11)، وقال -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(الزمر:9)، وقال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر:28).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من يرد الله به خيراً يفقهه الدين) رواه البخاري، ولقد بوَّب البخاري -رحمه الله- باباً في صحيحه بعنوان: "بابٌ العلم قبل القول والعمل"، وقال تحته: "قال الله -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)(محمد:19)، فبدأ بالعلم قبل العمل، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورِثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً سهًّل الله له طريقاً إلى الجنة. انتهى مختصراً.
- والعلم النافع هو العلم ينتفع به العبد وينفع به غيره؛ لذا قال -صلى الله عليه وسلم-: (خيركم من تعلَّم القرءان وعلَّمه) رواه البخاري، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبِِلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشرِِِبوا وسََقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تُمسك ماءً ولا تُنبتُ كلأً. فذلك مثل من فَقهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به) متفق عليه.
ولقد أمر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بطلب الزيادة من العلم قائلاًً
وقل ربِّ زدني علماً)(طه:114)، ولم يأمره بطلب الزيادة من شىءٍ آخر، وما ذلك إلا لشرف العلم ورفعة منزلته.
فلا شك أن طلب العلم النافع ينتفع به المرءُ، وينفعُ به غيرَه، هو أكملُ وأشرفُ وأفضلُ حالاً؛ لأن نفعه متعدٍ إلى غيره في حياته وحتى بعد موته.
ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ صدقةٍ جارية وعلم ٍ ينتفع به وولدٍ صالحٍ يدعو له من بعده) رواه مسلم، فبذلك يحصل للإنسان الخير الكثير بهذا العلم النافع بعد موته بعلمه الذي علَّمه لغيره، فلا ينقطع أجره؛ لذا كان سؤاله -صلى الله عليه وسلم- لربه أن يرزقه هذا العلم النافع ينتفع به وينفع به غيره. لذا كان لزاماً على الذاكر أن يستحضر هذا المعنى بقلبه وهو يردده بلسانه لعله يرزق العلم النافع ينتفع به الدنيا والآخرة.
فوائد العلم النافع:
1- سبب لتحصيل الخشية وتقوى الله: قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر:28).
2- سبب لرفعة العبد درجات الجنة: قال الله -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(المجادلة:11).
3- سبب لتحصيل الثواب بعد الموت: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثٍ صدقةٍ جاريةٍ وعلمٍ ينتفع به وولدٍ صلحٍ يدعو له من بعده) رواه مسلم.
4- سبب لاستغفار الله -تعالى-، وملائكته وجميع خلقه للعالِم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)(رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني)، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جُحرها وحتى الحوت ليصُّلون على مُعلِّمى الناسِ الخير)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
5- سبب لنضارة الوجه: قال -صلى الله عليه وسلم-: (نضَّر اللهُ وجهَ امرئٍ سمع منّا شيئاً فبلّغه كما سمعه فربَّ مبلَغِ أوعى من سامع)(رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
6- سبب لتيسير الطريق إلى الجنة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة)(رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني). نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا العلم النافع......آمين.
ورزقاً طيباً:
وفى هذا الذكر كذلك يسأل -صلى الله عليه وسلم- ربه الرزق الطيب الحلال غير المحرم، هذا من جهة، والمستطاب أكله غير الضار للأبدان ولا العقول من جهة أخرى.
ولقد كان سؤال -صلى الله عليه وسلم- لربه الرزق الطيب؛ امتثالاً لأمر ربه وطلباً لمرضاته، ولأن ذلك سبباً لاستجابة الدعاء نسأل الله -تعالى- أن يطعمنا من حل رزقه، وأن يصرف عنا خبيثه وحرامه.
فلقد أمر الله -عز وجل- الناس كلهم بذلك قائلاً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(البقرة:168).
وفى صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يقول الله -تعالى-: إن كل مالٍ نحلته عبادي فهو لهم حلال -وفيه.... وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم) رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين: فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، ثم ذكر الرجلَ يُُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبر يمدُ يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغُذّىَ بالحرام فأنى يُستجابُ لذلك) رواه مسلم.
ولقد حَّذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أكل الحرام بقوله: (كلُ جسدٍ نبتَ من سحتٍ فالنارُُ أولى به)(رواه الطبراني وصححه الألباني).
اللهم اقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، واسلل سخائم صدورنا، وأطب مطعمنا ومشربنا وملبسنا، اللهم آمين.
وعملاً متقبلاً:
وفى هذا الحديث أيضاً يطلب -صلى الله عليه وسلم- من ربه أن يوفقه للعمل الصالح، وأن يتقبله منه ويثيبه عليه، ويأجره عليه أجراً حسناً؛ لأن العبد إذا رُدَّ عمله كان ذلك شقاؤه في الدنيا والآخرة، ولضاع جهده ووقته وعمره فيما لا ينفعه بل فيما يضره؛ لقول الله -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)(الفرقان:23). وهي الأعمال التي كانت لغير الله أو على غير السنة.
ولقوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(الكهف:103-104).
ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه)(رواه أبو داود والنسائي وحسنه الألباني).
فاعلم يا رعاك الله....
أن رد العمل يكون بسبب الرياء والشرك، أو بسبب عدم الإتباع، وأن العمل الصالح المقبول فالتوفيق إليه من الله -عز وجل-، فهو يوفق العبد للعمل الصالح، ثم يرزقه عليه القبول، وهذا من تمام رحمة الله بالعبد.
لذا كان سؤال -صلى الله عليه وسلم- ربه كلَ صباحٍ قبولَ العمل، وألا يرده وجهه ليجد ذلك العمل ميزان حسناته يوم القيامة، ولقد كان أخوف ما يخافه -صلى الله عليه وسلم- على أمته الشرك الخفي وهو الرياء.
فعن أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر الدجال فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ فقلنا بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلى فيزيد صلاته لما يرى من نظر رجل)(رواه ابن ماجه وحسنه الألباني).
ولقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهِدَ فأُتى به فعرَّفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ ورجلاً تلت فيك حتى اُستشهدتُ قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقال جريء وقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقىَِ النارِ ورجلٌ تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتىَ به فعرفه نعمه فعرفها قال:فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال:عالم وقرأت ليقال قارئ فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقِىَ النار.،ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتى فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها ؟ قال: ما تركت من سبيلٍ تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد فقد قيل. ثم أُمِرَ به فسحب على وجهه حتى أُلقِىَ النار) رواه مسلم.
فانظر رحمك الله.
فهؤلاء الثلاثة الذين أجهدوا أنفسهم الطاعات والعبادات لم تنفعهم طاعتهم وعبادتهم لأنهم لم يريدوا وجه الله -تعالى- بها، بل صارت عذاباً لهم لأنهم قصدوا بها العباد لا رب العباد، وفي هذا دليل على تغليظ وتحريم الرياء وشدة عقوبته.
ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (قال الله -تعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)(رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني).
فانظر يا عبد الله:
ما أقبح أن يقوم العبد بالعبادة التي يتقرب بها لله لا يريد الله -عز وجل-، بل يريد عرضاً دنيوياً، لذا قال ابن رجب -رحمه الله-: "العمل على هذا النحو لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة".
فعلى الذاكر الحريص أن ينتبه إلى نيته وعبادته لله -تعالى-، وأنه لا يريد إلا وجه الله -عز وجل- امتثالاً لأمره وخوفاً من إحباط عمله؛ فلقد أمر الله -تعالى- بإخلاص العمل له قائلاً: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(الأعراف:29). وقال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)(البينة:5)، وقال -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا)(الكهف:110). ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرءٍ ما نوى) متفق عليه.
فلتعلم أخي ...واختي
أن نية المؤمن أبلغ من عمله، فإذا عمل العبد عملاً وفسدت نيته خسر العمل بفسادها، فالنية هي عمل القلب ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم.
لذا كان خوف -صلى الله عليه وسلم- على الأمة من الرياء، ولأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، نسأل الله الثبات، كما كان أشد الناس حرصاً على أن يدعو ربه بتثبيت قلبه قائلاً: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
وحرصه الشديد على هذا الذكر بين أيدينا من سؤال ربه أذكار الصباح كل يوم بأن يرزقه علماً نافعاً، يؤدى به إلى الإخلاص ومعرفة الله -عز وجل-، ورزقاً طيباً يجعله مستجاب الدعوة، وعملاً متقبلاً يتقرب به إلى الله -عز وجل- ويثيبه عليه يوم القيامة.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بربه من الرياء، ويعلِّم أصحابه ذلك بأن يقولوا: (اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه)(رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني).
نسأل الله -تعالى- أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة، وألا يجعل فيها لأحدٍ من خلقه شيئاً